نزول الوحي
{وجاءه جبريل في غار حراء ، فقال له : اقرأ ، فقال : لست بقارئ ، قال : اقرأ ، قال : لست بقارئ ، فغتَّه ([1]) حتى بلغ منه الجهد ، فقال له : اقرأ ،فقال : لست بقارئ فقال :{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}([2])([3]) ، وبهذه السورة كان نبيًّا ، ثم رجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجفُ فؤادُهُ فدخل عليها وقال : «زملوني زمِّلوني» ، فزمَّلوه ([4]) حتى ذهب عنه الرَّوعُ ، فأخبر خديجة الخبر ، فقالت خديجة رضي الله عنها : كلا واللهِ ما يُخزيك اللهُ أبدًا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتحمِل الكلَّ ، وتكسِب المعدوم ، وتقري الضيف ،وتعينُ على نوائب الحق . . . الحديث (([5]) ثم أرسله الله تعالى بسورة المدثر إلى الإنس والجن ، قال {بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا منالسماء فرفعتُ بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعبْتُ منه ، فرجعت فقلت زمِّلوني} ، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}([6])([7]) فحميَ الوحيُ وتتابع ([8])([9]) وبهذه السورة كان رسولًا .
الدعوة إلى الإسلام
بدأ بالدعوة إلى الله تعالى سرًا ، فأسلم على يديه : السابقون الأولون ، وكان أول من أسلم خديجة رضي الله عنها ، ثم علي ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو بكر رضي الله عنهم ، ثم دخل الناس في دين الله واحد بعد واحد ، حتى فشى الإسلام في مكة ، {ثم أمر الله تعالى نبيه بأن يجهر بالدعوة فقال : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ }([10])([11])، فدعاهم إلى الله ، وصعد على الصفا وقال : يا بني فهر ، يا بني عدي لبطون قريش ، حتى اجتمعوا ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج عليكم بسفح هذا الوادي أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ما جرَّبنا عليك كذبًا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد ([12])وقد ناصبه صناديد قريش ومن معهم العداء ، ولكن مع ذلك لم يستطع أحد منهم أن يتهمه بصفة الكذب أو صفة غير لائقة ، وقد قال الله تعالى : {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }([13]) ، ولو عرفوا خُلُقًا ذميمًا – وقد عاش بينهم أربعين عامًا - ؛ لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها أمام الناس ، ووجدوا أن كلمة ( ساحر ) و ( كاهن ) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه ؛ حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه ، والأخ وأخيه ، والزوجة وزوجها ، واتهموه بالجنون ؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده ، وتابع دعوته إلى الله في المواسم ، والأسواق ، وخرج إلى الطائف ، وأسلم الجن في طريقه عند رجوعه من الطائف ، وحصل له من الأذى الكثير فصبر واحتسب .
الإسراء والمعراج
ثم أُسريَ به إلى بيت المقدس ليلًا {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([1]) وعُرِج به إلى السماوات العُلى ، وقبل الإسراء جاء جبريلُ ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطستٍ ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيده فَعُرِج به ([2]) وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النبي شُقَّ صدره ثلاث مرات ، الأولى في بني سعد وهو صغير ، والثانية عند البعثة فقال : ( وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوَّة ، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس : {فأخرج علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك }([3]) ، وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال ، من العصمة من الشيطان ، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ؛ ليتلقى ما يُوحى إليه بقلبٍ قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير ، ثم وقع شق الصدر عند العروج إلى السماء ؛ ليتأهب للمناجاة ، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه ([4]).
وصل ليلة الإسراء والمعراج إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام فوق السماء السابعة ، وفرضت عليه الصلاة ، وصلى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ركعتين ، ورجع قبل أن يصبح إلى مكة ، واستمر في دعوته إلى التوحيد ، وصلَّى في مكة قبل الهجرة ثلاث سنين ، ولما اشتد الأذى من قريش ، وأكمل ثلاثة عشر عامًا في دعوته قومه إلى التوحيد ، أَذِنَ الله له بالهجرة ، فهاجر إلى المدينة ، وفرضت عليه فيها بقية شرائع الإسلام خلال عشر سنواتٍ ، كما تقدم ، وسيأتي إتمام الكلام في صبره على أذى قومه ، وفي غزواته ، وجهاده ، وحجِّه حجة الوداع ، ورجوعه إلى المدينة ، ثم موته بعد أن كمَّل الله به الدين ([5]) .
من سيرته صلى الله عليه وسلم
وكان يتجمَّلُ للعيد ، والوفود ، ويُحِبُّ النظافة ، وكان يكره أن يقوم له أحد ؛ فلا يقوم له الصحابة ؛ لعلمهم بكراهته لذلك ([1]) وكان يُحِبُّ السِّواك ، ويبدأ به إذا دخل بيته ، ويشوص فاه بالسواك إذا قام من الليل ، وكان ينام أول الليل ثم يقوم يصلي ، وكان يطيل صلاة الليل حتى تنتفخ قدماه ، ثم يُوتِرُ آخر الليل قبل الفجر ، وكان يُحِبُّ أن يسمع القرآن من غيره ، وكان يعود المرضى ، ويشهد الجنائز ويصلي عليهم ، وكان كثير الحياء ، وكان إذا كره شيئًا عُرِف في وجهه ، وكان يُحِبُّ الستر ، وكان يتوكل على الله حقَّ توكُّلِهِ ؛ لأنه سيد المتوكِّلين ، قال أنس {خَدَمْتُ النبي عشر سنين فما بعثني في حاجةٍ لم أُتِـمَّها إلا قال : لو قُضِيَ لكان ، أو : لو قُدِّر لكان }([2])([3]) ومع هذا فقد كان يأخذ بالأسباب . وكان لا يغدر وينهى عن الغدر ، وقد حفظه الله تعالى من أمور الجاهلية قبل الإسلام ([4]) ورعى الغنم في صغره وما من نبيٍّ إلاَّ رعاها ([5]) وكان الحجر يسلم عليه قبل البعثة ([6]) .
وكان يكثر الذكر ، دائم الفكر ، ويقل اللغو ، ويطيل الصلاة ، ويقصر الخطبة ، ويحب الطيب ولا يرده ، ويكره الروائح الكريهة ، وكان أكثر الناس تبسمًا ، وضحك في أوقاتٍ حتى بدت نواجذه ([7]) قال جرير {ما حجبني رسول الله منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسَّمَ في وجهي ، ولقد شكوت إليه أَنِّـي لا أثبت على الخيل ، فضرب في صدري ، وقال : اللهم ثبِّته ، واجعله هاديًا مهديًّا }([8])([9]) ويمزح ولا يقول إلا حقًّا ، ولا يجفو أحدًا ، ويقبل عذر المعتذر إليه ،وكان ويتكلم بجوامع الكلم ، وإذا تكلم تكلَّم بكلامٍ بيِّنٍ فَصْلٍ ، يحفظه من جلس إليه ، ويعيد الكلمة ثلاثًا إذا لم تفهم حتى تُفهم عنه ، ولا يتكلم من غير حاجة ، وقد جمع الله له مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، فكانت معاتبته تعريضًا ، وكان يأمر بالرفق ويحثُّ عليه ، وينهي عن العنف ، ويحث على العفو والصفح ، والحلم ، والأناة ، وحسن الخلق ومكارم الأخلاق ، وكان مجلسه : مجلس علم ، وحلم ، وحياء ، وأمانة ، وصيانة ، وصبر ، وسكينة ، ولا ترفع فيه الأصوات ، ولا تنتهك فيه الحرمات ، يتفاضلون في مجلسه بالتقوى ، ويتواضعون ، وَيُوَقِّرون الكبار ، ويرحَمُون الصغار ، ويؤثرون المحتاج ، ويخرجون دعاة إلى الخير ، وكان يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، وكان يمشي مع الأرملة والمسكين ، والعبد ، حتى يقضي له حاجته . ومر على الصبيان يلعبون فسلَّم عليهم ، وكان لا يصافح النساء غير المحارم ، وكان يتألف أصحابه ويتفقدهم ، ويكرم كريم كل قوم ، ويُقبل بوجهه وحديثه على من يُحدثه ، حتى على أشرِّ القوم يتألفهم بذلك ، {وخدمه أنس عشر سنين ، قال : فما قال لي أُفٍّ قط ، وما قال لي لشيء صنعته لِمَ صنعته ، ولا لشيء تركته لِمَا تركته ، وكان من أحسن الناس خُلُقًا ولامسست خزًّا ، ولا حريرًا ، ولا شيئًا كان ألين من كفِّ رسول الله ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا أطيب من عرق النبي }([10])([11]) . ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخَّابًا ([12]) ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح ويحلم ، ولم يضرب خادمًا ولا امرأة ولا شيئًا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى ، وما خُيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه .
حسن معاملته صلى الله عليه وسلم
وكان أحسن الناس معاملة ، فإذا استسلف سلفًا قضى خيرًا منه ؛ ولهذا : {جاء رجل إلى النبي يتقاضاه بعيرًا فأغلظ له في القول ، فَهَّم به أصحابه فقال النبي دعوه فإن لصاحب الحق مقالًا ، فقالوا : يا رسول الله : لا نجد إلا سنًّا هو خير من سنِّه فقال أعطوه ، فقال الرجل : أوفيتني أوفاك الله ، فقال إن خير عباد الله أحسنهم قضاءً }([1])([2]) .{واشترى من جابر بن عبد الله بعيرًا ، فلما جاء جابر بالبعير قال له أتراني ماكستك ؟ قال : لا يا رسول الله ، فقال : خذ الجمل والثمن }([3])([4]) .
خلقه صلى الله عليه وسلم
وكان أحسن الناس خُلُقًا ؛ لأن خُلُقَهُ القرآن ، لقول عائشة رضي الله عنها : {كان خلقه القرآن }([5])([6]) ؛ ولهذا قال {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق }([7])([8]) .
زهده صلى الله عليه وسلم
وكان أزهد الناس في الدنيا ، فقد ثبت عنه {أنه اضطجع على الحصير فأثَّر في جنبه ، فدخل عليه عمر ابن الخطاب ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال رسول الله : لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا ؟ فقال مالي وللدنيا ، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها }([9])([10]) . {وقال : لو كان لي مثلُ أُحُدٍ ذهبًا ما يَسُرُّني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء ، إلا شيءٌ أرصُدُهُ لدين }([11])([12]) .وعن أبي هريرة قال : {ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض }([13])([14]) .
والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية ، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالبًا كان بسبب قلة الشيء عندهم على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم ([15])
وشكرا لكم